الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الجلالين ***
{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آَمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41)} {واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُم} أخذتم من الكفار قهراً {مِّن شَئ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ} يأمر فيه بما يشاء {وَلِلرَّسُولِ وَلِذِى القربى} قرابة النبي صلى الله عليه وسلم من بني هاشم وبني المطلب {واليتامى} أطفال المسلمين الذين هلك آباؤهم وهم فقراء {والمساكين} ذوي الحاجة من المسلمين {وابن السبيل} المنقطع في سفره من المسلمين، أي يستحقه النبي صلى الله عليه وسلم والأصناف الأربعة على ما كان يقسمه من أن لكلٍّ خُمسَ الخمس، والأخماس الأربعة الباقية للغانمين. {إِن كُنْتُم ءَامَنْتُم بالله} فاعلموا ذلك {وَمَا} عطف على «بالله» {أَنزَلْنَا على عَبْدِنَا} محمد صلى الله عليه وسلم من الملائكة والآيات {يَوْمَ الفرقان} أي يوم بدر الفارق بين الحق والباطل {يَوْمَ التقى الجمعان} المسلمون والكفار {والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ومنه نصركم مع قلتكم وكثرتهم.
{إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42)} {إِذْ} بدل من «يوم» {أَنتُمْ} كائنون {بِالْعُدْوَةِ الدنيا} القربى من المدينة، وهي بضم العين وكسرها: جانب الوادي {وَهُم بالعدوة القصوى} البعدى منها {والركب} العير كائنون بمكان {أَسْفَلَ مِنكُمْ} مما يلي البحر {وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ} أنتم والنفير للقتال {لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الميعاد ولكن} جمعكم بغير ميعاد {لِّيَقْضِيَ الله أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً} في علمه وهو نصر الإِسلام ومحق الكفر، فعل ذلك {لِيَهْلِكَ} يكفر {مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ} أي بعد حجة ظاهرة قامت عليه وهي نصر المؤمنين مع قلتهم على الجيش الكثير {ويَحْيَا} يؤمن {ا مَنْ حَىَّ عَن بَيِّنَةٍ وَإِنَّ الله لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} 0
{إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (43)} اذكر {إِذْ يُرِيكَهُمُ الله فِى مَنَامِكَ} أي نومك {قَلِيلاً} فأخبرت به أصحابك فسُرُّوا {وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَّفَشِلْتُمْ} جبنتم {ولتنازعتم} اختلفتم {فِى الأمر} أمر القتال {ولكن الله سَلَّمَ} كم من الفشل والتنازع {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور} بما في القلوب.
{وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (44)} {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ} أيها المؤمنون {إِذِ التقيتم فِى أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً} نحو سبعين أو مائة وهم ألف لتقدموا عليهم {وَيُقَلّلُكُمْ فِى أَعْيُنِهِمْ} ليقدموا ولا يرجعوا عن قتالكم، وهذا قبل التحام الحرب، فلما التحم أراهم إياهم مثليهم كما في (آل عمران) {لِيَقْضِىَ الله أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى الله تُرْجَعُ} تصير {الأمور}.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45)} {الأمور ياأيها الذين ءَامَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً} جماعة كافرة {فاثبتوا} لقتالهم ولا تنهزموا {واذكروا الله كَثِيراً} ادعوه بالنصر {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} تفوزون.
{وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46)} {وَأَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ وَلاَ تنازعوا} تختلفوا فيما بينكم {فَتَفْشَلُواْ} تجبنوا {وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} قوّتكم ودولتكم {واصبروا إِنَّ الله مَعَ الصابرين} بالنصر والعون.
{وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47)} {وَلاَ تَكُونُواْ كالذين خَرَجُواْ مِن ديارهم} ليمنعوا عِيرهم ولم يرجعوا بعد نجاتها {بَطَراً وَرِئَآءَ الناس} حيث قالوا: لا نرجع حتى نشرب الخمر وننحر الجزور وتضرب علينا القيان ببدر فيتسامع بذلك الناس {وَيَصُدُّونَ} الناس {عَن سَبِيلِ الله والله بِمَا يَعْمَلُونَ} بالياء والتاء {مُحِيطٌ} علماً فيجازيهم به.
{وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (48)} {وَ} اذكر {إِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشيطان} إبليس {أعمالهم} بأن شجعهم على لقاء المسلمين لما خافوا الخروج من أعدائهم بني بكر {وَقَالَ} لهم {لاَ غَالِبَ لَكُمُ اليوم مِنَ الناس وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ} من (كنانة)، وكان أتاهم في صورة سراقة بن مالك سيد تلك الناحية {فَلَمَّا تَرَآءتِ} التقت {الفئتان} المسلمة والكافرة ورأى الملائكة وكان يده في يد الحارث بن هشام {نَكَصَ} رجع {على عَقِبَيْهِ} هارباً {وَقَالَ} لما قالوا له: أتخذلنا على هذا الحال؟ {إِنّي بَرِئ مِّنْكُمْ} من جواركم {إِنِّي أرى مَا لاَ تَرَوْنَ} من الملائكة {إِنِّى أَخَافُ الله} أن يهلكني {والله شَدِيدُ العقاب}.
{إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49)} {إِذْ يَقُولُ المنافقون والذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} ضعف اعتقاد {غَرَّ هؤلاءآء} أي المسلمين {دِينُهُم} إذ خرجوا مع قلتهم يقاتلون الجمع الكثير توهماً أنهم ينصرون بسببه. قال تعالى: في جوابهم {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله} يثق به يغلب {فَإِنَّ الله عَزِيزٌ} غالب على أمره {حَكِيمٌ} في صنعه.
{وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (50)} {وَلَوْ ترى} يا محمد صلى الله عليه وسلم {إِذْ يَتَوَفَّى} بالياء والتاء {الذين كَفَرُواْ الملائكة يَضْرِبُونَ} حال {وُجُوهَهُمْ وأدبارهم} بمقامع من حديد {وَ} يقولون لهم {وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الحريق} أي النار، وجواب «لو» لرأيت أمراً عظيماً.
{ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (51)} {ذلك} التعذيب {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} عبَّر بها دون غيرها لأن أكثر الأفعال تزاول بها {وَأَنَّ الله لَيْسَ بظلام} أي بذي ظلم {لّلْعَبِيدِ} فيعذبهم بغير ذنب.
{كَدَأْبِ آَلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (52)} دأب هؤلاء {كَدَأْبِ} كعادة {ءَالِ فِرْعَوْنَ والذين مِن قَبْلِهِمْ كَفَرُواْ بئايات الله فَأَخَذَهُمُ الله} بالعقاب {بِذُنُوبِهِمْ} جملة «كفروا» وما بعدها مفسرة لما قبلها {إِنَّ الله قَوِىٌّ} على ما يريده {شَدِيدُ العقاب}.
{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53)} {ذلك} أي تعذيب الكفرة {بِأَنَّ} أي بسبب أن {الله لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا على قَوْمٍ} مبدلاً لها بالنقمة {حتى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ} يبدلوا نعمتهم كفراً كتبديل كفار مكة إطعامهم من جوع وأمنهم من خوف وبعث النبي صلى الله عليه وسلم إليهم بالكفر والصدّ عن سبيل الله وقتال المؤمنين {وَأَنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ}.
{كَدَأْبِ آَلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آَلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ (54)} {كَدَأْبِ ءَالِ فِرْعَوْنَ والذين مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بئايات رَبِّهِمْ فأهلكناهم بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَآ ءَالَ فِرْعَونَ} قومه معه {وَكُلٌّ} من الأمم المكذبة {كَانُواْ ظالمين}.
{إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (55)} ونزل في قريظة {إِنَّ شَرَّ الدوآب عِندَ الله الذين كَفَرُواْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ}.
{الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ (56)} {الذين عاهدت مِنْهُمْ} أن لا يعينوا المشركين {ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ} عاهدوا فيها {وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ} الله في غدرهم.
{فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57)} {فَإِمَّا} فيه إدغام نون «إن» الشرطية في «ما» المزيدة {تَثْقَفَنَّهُمْ} تجدنهم {فِى الحرب فَشَرِّدْ} فرِّق {بِهِم مَّنْ خَلْفِهِمْ} من المحاربين بالتنكيل بهم والعقوبة {لَعَلَّهُمْ} أي الذين خلفهم {يَذَّكَّرُونَ} يتعظون بهم.
{وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ (58)} {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ} عاهدوك {خِيَانَةً} في عهد بأمارة تلوح لك {فانبذ} اطرح عهدهم {إِلَيْهِمْ على سَوآء} حال: أي مستوياً أنت وهم في العلم بنقض العهد بأن تعلمهم به لئلا يتهموك بالغدر {إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الخائنين}.
{وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ (59)} ونزل فيمن أفلت يوم بدر {وَلاَ يَحْسَبَنَّ} يا محمد {الذين كَفَرُواْ سَبَقُواْ} الله أي فاتوه {إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ} لا يفوتونه. وفي قراءة بالتحتانية، فالمفعول الأول محذوف أي (أنفسهم). وفي الأخرى بفتح «أن» على تقدير اللام.
{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآَخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (60)} {وَأَعِدُّواْ لَهُمْ} لقتالهم {مَّا استطعتم مِّن قُوَّةٍ} قال صلى الله عليه وسلم «هي الرمي» رواه مسلم {وَمِن رّبَاطِ الخيل} مصدر بمعنى حبسها في سبيل الله {تُرْهِبُونَ} تُخَوِّفون {بِهِ عَدْوَّ الله وَعَدُوَّكُمْ} أي كفار مكة {وَءَاخَرِينَ مِن دُونِهِمْ} أي غيرهم وهم المنافقون أو اليهود {لاَ تَعْلَمُونَهُمُ الله يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَئ فِى سَبِيلِ الله يُوَفَّ إِلَيْكُمْ} جزاؤه {وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ} تنقصون منه شيئاً.
{وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61)} {وَإِن جَنَحُواْ} مالوا {لِلسَّلْمِ} بكسر السين وفتحها: الصلح {فاجنح لَهَا} وعاهدهم. قال ابن عباس: هذا منسوخ بآية السيف [5: 9] وقال مجاهد: مخصوص بأهل الكتاب إذ نزلت في بني قريظة {وَتَوَكَّلْ عَلَى الله} ثق به {إِنَّهُ هُوَ السميع} للقول {العليم} بالفعل.
{وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62)} {وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ} بالصلح ليستعدوا لك {فَإِنَّ حَسْبَكَ} كافيك {الله هُوَ الذى أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وبالمؤمنين}.
{وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63)} {وَأَلَّفَ} جمع {بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} بعد الإِحَنِ {لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِى الأرض جَمِيعاً مَّآ أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ولكن الله أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} بقدرته {إِنَّهُ عَزِيزٌ} غالب على أمره {حَكِيمٌ} لا يخرج شيء عن حكمته.
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64)} {ياأيها النبى حَسْبُكَ الله} حسبك {مَنِ اتبعك مِنَ المؤمنين}.
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (65)} {ياأيها النبى حَرِّضِ} حُثَّ {المؤمنين عَلَى القتال} للكفار {إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صابرون يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ} منهم {وَإِن يَكُنْ} بالياء والتاء {مّنكُمْ مِّاْئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفًا مِّنَ الذين كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ} أي بسبب أنهم {قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ} وهذا خبر بمعنى الأمر: أي ليقاتل العشرون منكم المائتين، والمائةالألف ويثبتوا لهم، ثم نسخ لما كثروا بقوله.
{الْآَنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66)} {الئان خَفَّفَ الله عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً} بضم الضاد وفتحها عن قتال عشرة أمثالكم {فَإِن يَكُن} بالياء والتاء {مِّنكُمْ مِّاْئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ} منهم {وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ الله} بإرادته، وهو خبر بمعنى الأمر: أي لتقاتلوا مثليكم وتثبتوا لهم {والله مَعَ الصابرين} بعونه.
{مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67)} ونزل لما أخذوا الفداء من أسرى بدر: {مَا كَانَ لِنَبِىٍّ أَن يَكُونُ} بالتاء والياء {لَهُ أسرى حتى يُثْخِنَ فِي الأرض} يبالغ في قتل الكفار {تُرِيدُونَ} أيها المؤمنون {عَرَضَ الدنيا} حطامها بأخذ الفداء {والله يُرِيدُ} لكم {الأخرة} أي ثوابها بقتلهم {والله عَزِيزٌ حَكُيمٌ} وهذا منسوخ بقوله: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً} [4: 47].
{لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68)} {لَّوْلاَ كتاب مِّنَ الله سَبَقَ} بإحلال الغنائم والأسرى لكم {لَمَسَّكُمْ فِيمَآ أَخَذْتُمْ} من الفداء {عَذَابٌ عظِيمٌ}.
{فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (69)} {فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حلالا طَيِّباً واتقوا الله إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ}.
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (70)} {يَا أَيُّهَا النَّبيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أيْدِيكُمْ مِنَ الأسرى} وفي قراءة (الأسارى) {إِن يَعْلَمِ الله فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً} إيماناً وإِخلاصاً {يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِّمّآ أُخِذَ مِنكُمْ} من الفداء بأن يضعِّفه لكم في الدنيا ويثيبكم في الآخرة {وَيَغْفِرْ لَكُمْ} ذنوبكم {والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ}.
{وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (71)} {وَإِن يُرِيدُواْ} أي الأسرى {خِيَانَتَكَ} بما أظهروا من القول {فَقَدْ خَانُواْ الله مِن قَبْلُ} قبل بدر بالكفر {فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ} ببدر قتلاً وأسراً فليتوقعوا مثل ذلك إن عادوا {والله عَلِيمٌ} بخلقه {حَكِيمٌ} في صنعه.
{إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72)} {إِنَّ الذين ءَامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وجاهدوا بأموالهم وَأَنفُسِهِمْ فِى سَبِيلِ الله} وهم المهاجرون {والذين ءاوَواْ} النبي صلى الله عليه وسلم {وَّنَصَرُواْ} وهم الأنصار {أولئك بَعْضُهُمْ أَوْلِيآءُ بَعْضٍ} في النصرة والإِرث {والذين ءَامَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ ما لَكُمْ مِّن ولايتهم} بكسر الواو وفتحها {مِن شَئ} فلا إرث بينكم وبينهم ولا نصيب لهم في الغنيمة {حتى يُهَاجِرُواْ} وهذا منسوخ بآخر السورة {وَإِنِ استنصروكم فِى الدين فَعَلَيْكُمُ النصر} لهم على الكفار {إِلاَّ على قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مّيثَاقٌ} عهد فلا تنصروهم عليهم وتنقضوا عهدهم {والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}.
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ (73)} {والذين كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} في النصرة والإِرث، فلا إرث بينكم وبينهم {إِلاَّ تَفْعَلُوهُ} أي تولي المسلمين وقمع الكفار {تَكُنْ فِتْنَةٌ فِى الأرض وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} بقوة الكفر وضعف الإِسلام.
{وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74)} {والذين ءَامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وجاهدوا فِي سَبِيلِ الله والذين ءَاوَواْ وَّنَصَرُواْ أولئك هُمُ المؤمنون حَقّاً لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} في الجنة.
{وَالَّذِينَ آَمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75)} {والذين ءَامَنُواْ مِن بَعْدُ} أي بعد السابقين إلى الإِيمان والهجرة {وَهَاجَرُواْ وجاهدوا مَعَكُمْ فأولئك مِنكُمْ} أيها المهاجرون والأنصار {وَأُوْلُوا الأرحام} ذوو القرابات {بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ} في الإِرث من التوارث بالإِيمان والهجرة المذكورة في الآية السابقة {فِى كتاب الله} اللوح المحفوظ {أَنَّ الله بِكُلِّ شَئ عَلِيمٌ} ومنه حكمة الميراث.
{بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1)} هذه {بَرآءَةٌ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ} واصلة {إِلَى الذين عَاهَدْتُمْ مِّنَ المشركين} عهداً مطلقاً أو دون أربعة أشهر أو فوقها، ونقض العهد بما يذكر في قوله.
{فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ (2)} {فَسِيحُواْ} سيروا آمنين أيها المشركون {فِى الأرض أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} أوّلها شوّال، بدليل ما سيأتي، ولا أمان لكم بعدها {واعلموا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي الله} أي فائتي عذابه {وَأَنَّ الله مُخْزِى الكافرين} مذلُّهم في الدنيا بالقتل وفي الآخرة بالنار.
{وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (3)} {وَأَذَانٌ} إعلام {مّنَ الله وَرَسُولِهِ إِلَى الناس يَوْمَ الحج الأكبر} يوم النحر {أن} أي بأن {الله بَرِئ مِّنَ المشركين} وعهودهم {وَرَسُولُهُ} بريء أيضاً، وقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم عَلِيّاً من السنة وهي سنة تسع فأذَّنَ يوم النحر بمنى بهذه الآيات، وأن لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان. رواه البخاري {فَإِن تُبْتُمْ} من الكفر {فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ} عن الإِيمان {فاعلموا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِى الله وَبَشِّرِ} أخبر {الذين كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} مؤلم وهو القتل والأسر في الدنيا، والنار في الآخرة.
{إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4)} {إِلاَّ الذين عاهدتم مِّنَ المشركين ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً} من شروط العهد {وَلَمْ يظاهروا}: يعاونوا {عَلَيْكُمْ أَحَداً} من الكفار {فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إلى} انقضاء {مُدَّتِهِمْ} التي عاهدتم عليها {إِنَّ الله يُحِبُّ المتقين} بإِتمام العهود.
{فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)} {فَإِذَا انسلخ} خرج {الأشهر الحرم} وهي آخر مدة التأجيل {فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} في حِلٍّ أو حرم {وَخُذُوهُمْ} بالأسر {واحصروهم} في القلاع والحصون حتى يضطروا إلى القتل أو الإِسلام {واقعدوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} طريق يسلكونه، ونصب «كلَّ» على نزع الخافض {فَإِن تَابُواْ} من الكفر {وَأَقَامُواْ الصلاة وَآتَوُاْ الزكواة فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ} ولا تتعرضوا لهم {إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} لمن تاب.
{وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ (6)} {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ المشركين} مرفوع بفعل يفسره {استجارك} استأمنك من القتل {فَأَجِرْهُ} أمِّنه {حتى يَسْمَعَ كَلاَمَ الله} القرآن {ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} أي موضع أمنه: وهو دار قومه إن لم يؤمن، لينظر في أمره {ذلك} المذكور {بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ} دينَ الله فلا بدَّ لهم من سماع القرآن ليعلموا.
{كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7)} {كَيْفَ} أي لا {يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ} الناقضين للعهد {عَهْدٌ عِندَ الله وَعِندَ رَسُولِهِ} وهم الكافرون بهما غادرون {إِلاَّ الذين عاهدتم عِندَ المسجد الحرام} يوم الحديبية وهم قريش المستثنون من قبل {فَمَا استقاموا لَكُمْ} أقاموا على العهد ولم ينقضوه {فاستقيموا لَهُمْ} على الوفاء به و«ما» شرطية {إِنَّ الله يُحِبُّ المتقين} وقد استقام صلى الله عليه وسلم على عهدهم حتى نقضوا بإِعانة (بني بكر) على (خزاعة).
{كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (8)} {كَيْفَ} يكون لهم عهد {وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ} يظفروا بكم {لاَ يَرْقُبُواْ} يراعوا {فِيكُمْ إِلاًّ} قرابة {وَلاَ ذِمَّةً} عهداً بل يؤذوكم ما استطاعوا، وجملة الشرط حال {يُرْضُونَكُم بأفواههم} بكلامهم الحسن {وتأبى قُلُوبُهُمْ} الوفاء به {وَأَكْثَرُهُمْ فاسقون} ناقضون للعهد.
{اشْتَرَوْا بِآَيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (9)} {اشتروا بئايات الله} القرآن {ثَمَناً قَلِيلاً} من الدنيا أي تركوا اتباعها للشهوات والهوى {فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ} دينه {إِنَّهُمْ سَآءَ} بئس {مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} ه عملهم هذا.
{لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10)} {لاَ يَرْقُبُونَ فِى مُؤْمِنٍ إِلاًّ} قرابة {وَلاَ ذِمَّةً} عهداً {وأولئك هُمُ المعتدون}.
{فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11)} {فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصلاة وَءَاتَوُاْ الزكواة فإخوانكم} أي فهم إخوانكم {فِي الدين وَنُفَصِّلُ} نبيِّن {الايات لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} يتدبَّرون.
{وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12)} {وَإِن نَّكَثُواْ} نقضوا {أيمانهم} مواثيقهم {مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِى دِينِكُمْ} عابوه {فقاتلوا أَئِمَّةَ الكفر} رؤساءه، فيه وضع الظاهر موضع المضمر {إِنَّهُمْ لا أيمان} عهود {لَهُمْ} وفي قراءة بالكسر {لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ} عن الكفر.
{أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13)} {إِلا} للتحضيض {تقاتلون قَوْماً نَّكَثُواْ} نقضوا {أيمانهم} عهودهم {وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرسول} من مكة لما تشاوروا فيه بدار الندوة {وَهُمْ بَدَءُوكُمْ} بالقتال {أَوَّلَ مَرَّةٍ} حيث قاتلوا (خزاعة) حلفاءكم مع (بني بكر) فما يمنعكم أن تقاتلوهم؟ {أَتَخْشَوْنَهُمْ} أتخافونهم؟ {فالله أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ} في ترك قتالهم {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}.
{قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14)} {قاتلوهم يُعَذِّبْهُمُ الله} يقتلهم {بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ} ويذلّهم بالأسر والقهر {وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ} بما فُعل بهم: هم (بنو خزاعة).
{وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15)} {وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ} كربَها {وَيَتُوبُ الله على مَن يَشَآءُ} بالرجوع إلى الإِسلام كأبي سفيان {والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ}.
{أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (16)} {أَمْ} بمعنى همزة الإِنكار {حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا} لم {يَعْلَمِ الله} علم ظهورٍ {الذين جاهدوا مِنكُمْ} بإِخلاص {وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ الله وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ المؤمنين وَلِيجَةً} بطانة وأولياء، المعنى: ولم يظهر المخلصون- وهم الموصوفون بما ذكر- من غيرهم {والله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}.
{مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (17)} {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مساجد الله} بالإِفراد والجمع بدخوله والقعود به {شاهدين على أَنفُسِهِم بِالْكُفْرِ أولئك حَبِطَتْ} بطلت {أعمالهم} لعدم شرطها {وَفِى النار هُمْ خالدون}.
{إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18)} {إِنَّمَا يَعْمُرُ مساجد الله مَنْ ءَامَنَ بالله واليوم الأخر وَأَقَامَ الصلاة وءاتى الزكواة وَلَمْ يَخْشَ} أحداً {إِلاَّ الله فعسى أولئك أَن يَكُونُواْ مِنَ المهتدين}.
{أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19)} {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الحآج وَعِمَارَةَ المسجد الحرام} أي أهل ذلك {كَمَنْ ءَامَنَ بالله واليوم الأخر وجاهد فِى سَبِيلِ الله لاَ يَسْتَوُنَ عِندَ الله} في الفضل {والله لاَ يَهْدِى القوم الظالمين} الكافرين، نزلت ردّاً على من قال ذلك وهو العباس أو غيره.
{الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20)} {الذين ءَامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وجاهدوا فِى سَبِيلِ الله بأموالهم وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً} رتبة {عَندَ الله} من غيرهم {وأولئك هُمُ الفآئزون} الظافرون بالخير.
{يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21)} {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ ورضوان وجنات لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ} دائم.
{خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22)} {خالدين} حال مقدّرة {فِيهَآ أَبَداً إِنَّ الله عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ}.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آَبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23)} ونزل فيمن ترك الهجرة لأجل أهله وتجارته: {ياأيها الذين ءَامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ ءَابَآءَكُمْ وإخوانكم أَوْلِيَآءَ إِنِ استحبوا} اختاروا {الكفر عَلَى الإيمان وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ فأولئك هُمُ الظالمون}.
{قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24)} {قُلْ إِن كَانَ ءَابَآؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وإخوانكم وأزواجكم وَعَشِيرَتُكُمْ} أقرباؤكم وفي قراءة (عشيراتكم) {وأموال اقترفتموها} اكتسبتموها {وتجارة تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا} عدم نفاقها {ومساكن تَرْضَوْنَهَآ أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ} فقعدتم لأجله عن الهجرة والجهاد {فَتَرَبَّصُواْ} انتظروا {حتى يَأْتِىَ الله بِأَمْرِهِ} تهديد لهم {والله لاَ يَهْدِى القوم الفاسقين}.
{لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25)} {لَقَدْ نَصَرَكُمُ الله فِى مَوَاطِنَ} للحرب {كَثِيرَةٍ} كبدر وقريظة والنضير {وَ} اذكر {يَوْمَ حُنَيْنٍ} واد بين مكة والطائف أو يوم قتالكم فيه (هوازن)، وذلك في شوال سنة ثمان {إِذْ} بدل من (يوم) {أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ} فقلتم لن نُغلَب اليوم من قلة، وكانوا اثني عشر ألفاً والكفار أربعة آلاف {فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الارض بِمَا رَحُبَتْ} «ما» مصدرية أي مع رحبها أي سعتها فلم تجدوا مكاناً تطمئنون إليه لشدّة ما لحقكم من الخوف {ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ} منهزمين وثبت النبي صلى الله عليه وسلم على بغلته البيضاء، وليس معه غير العباس، وأبو سفيان آخذ بركابه.
{ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (26)} {ثُمَّ أَنزَلَ الله سَكِينَتَهُ} طمأنينته {على رَسُولِهِ وَعَلَى المؤمنين} فَرَدُّوا إِلى النبيّ صلى الله عليه وسلم لما ناداهم العباس بإِذنه وقاتلوا {وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا} ملائكة {وَعذَّبَ الذين كَفَرُواْ} بالقتل والأسر {وذلك جَزَآءُ الكافرين}.
{ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (27)} {ثُمَّ يَتُوبُ الله مِن بَعْدِ ذلك على مَن يَشَآءُ} منهم بالإِسلام {والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ}.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28)} {رَّحِيمٌ ياأيها الذين ءَامَنُواْ إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ} قذر لخبث باطنهم {فَلاَ يَقْرَبُواْ المسجد الحرام} أي لا يدخلوا الحرم {بَعْدَ عَامِهِمْ هذا} عام تسع من الهجرة {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً} فقراً بانقطاع تجارتهم عنكم {فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ الله مِن فَضْلِهِ إِن شَآءَ} وقد أغناهم بالفتوح والجزية {إِنَّ الله عَلِيمٌ حَكِيمٌ}.
{قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29)} {قاتلوا الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله وَلاَ باليوم الأخر} وإِلاّ لآمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم {وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ الله وَرَسُولُهُ} كالخمر {وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الحق} الثابت الناسخ لغيره من الأديان وهو دين الإِسلام {مِنْ الذين} بيان للذين {أُوتُواْ الكتاب} أي اليهود والنصارى {حتى يُعْطُواْ الجزية} الخراج المضروب عليهم كل عام {عَن يَدٍ} حال أي منقادين أو بأيديهم لا يوكلون بها {وَهُمْ صاغرون} أذلاء منقادون لحكم الإِسلام.
{وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30)} {وَقَالَتِ اليهود عُزَيْرٌ ابن الله وَقَالَتِ النصارى المسيح} عيسى {ابن الله ذلك قَوْلُهُم بأفواههم} لا مستند لهم عليه بل {يضاهئون} يشابهون به {قَوْلَ الذين كَفَرُواْ مِن قَبْلُ} من آبائهم تقليداً لهم {قاتلهم} لعنهم {الله أَنَّى} كيف {يُؤْفَكُونَ} يُصْرَفون عن الحق مع قيام الدليل؟.
{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)} {اتخذوا أحبارهم} علماء اليهود {ورهبانهم} عُبَّاد النصارى {أَرْبَابًا مّن دُونِ الله} حيث اتبعوهم في تحليل ما حرّم الله وتحريم ما أحلّ {والمسيح ابن مَرْيَمَ وَمَآ أُمِرُواْ} في التوراة والإِنجيل {إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ} أي بأن يعبدوا {إلها واحدا لآ إله إِلاَّ هُوَ سبحانه} تنزيهاً له {عَمَّا يُشْرِكُونَ}.
{يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32)} {يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ الله} شرعه وبراهينه {بأفواههم} بأقوالهم فيه {ويأبى الله إِلآ أَن يُتِمَّ} يُظْهر {نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الكافرون} ذلك.
{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33)} {هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ} محمداً صلى الله عليه وسلم {بالهدى وَدِينِ الحق لِيُظْهِرَهُ} يعليه {عَلَى الدين كُلِّهِ} جميع الأديان المخالفة له {وَلَوْ كَرِهَ المشركون} ذلك.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34)} {المشركون ياأيها الذين ءَامَنُواْ إِنَّ كَثِيراً مِّنَ الأحبار والرهبان لَيَأْكُلُونَ} يأخذون {أموال الناس بالباطل} كالرشا في الحكم {وَيَصُدُّونَ} الناس {عَن سَبِيلِ الله} دينه {والذين} مبتدأ {يَكْنِزُونَ الذهب والفضة وَلاَ يُنفِقُونَهَا} أي الكنوز {فِى سَبِيلِ الله} أي لا يؤدُّون منها حقه من الزكاة والخير {فَبَشِّرْهُم} أخبِرْهُم {بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} مؤلم.
{يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35)} {يَوْمَ يحمى عَلَيْهَا فِى نَارِ جَهَنَّمَ فتكوى} تحرق {بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ} وتوسع جلودهم حتى توضع عليها كلها. ويقال لهم {هذا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ} أي جزاءه.
{إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36)} {إِنَّ عِدَّةَ الشهور} المعتدّ بها للسنة {عِندَ الله اثنا عَشَرَ شَهْراً فِي كتاب الله} اللوح المحفوظ {يَوْمَ خَلَقَ السموات والارض مِنْهَآ} أي الشهور {أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} محرَّمة: ذو القعدة وذو الحجة والمحرّم ورجب {ذلك} أي تحريمها {الدين القيم} المستقيم {فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ} أي الأشهر الحرم {أَنفُسَكُمْ} بالمعاصي، فإِنها فيها أعظم وزراً، وقيل: في الأشهر كلها {وَقَاتِلُواْ المشركين كَافَّةً} في كل الشهور {كَمَا يقاتلونكم كَآفَّةً واعلموا أَنَّ الله مَعَ المتقين} جميعاً بالعون والنصر.
{إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (37)} {إِنَّمَا النسئ} أي التأخير لحرمة شهر إلى آخرَ كما كانت الجاهلية تفعله من تأخير حرمة (المحرم) إذا هلّ وهم في القتال إلى (صفر) {زِيَادَةٌ فِى الكفر} لكفرهم بحكم الله فيه {يُضِلُّ} بضم الياء وفتحها {بِهِ الذين كَفَرُواْ يُحِلُّونَهُ} أي النسيء {عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِّيُوَاطِئُواْ} يوافقوا بتحليل شهر وتحريم آخر بدله {عِدَّةَ} عدد {مَا حَرَّمَ الله} من الأشهر فلا يزيدون على تحريم أربعة أشهر ولا ينقصون ولا ينظرون إلى أعيانها {فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ الله زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أعمالهم} فظنّوه حسناً {والله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين}.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآَخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38)} ونزل لما دعا صلى الله عليه وسلم الناس إلى غزوة تبوك وكانوا في عسرة وشدّة حرّ فشقّ عليهم {ياأيها الذين ءَامَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفروا فِى سَبِيلِ الله اثاقلتم} بإِدغام التاء في الأصل في المثلثة واجتلاب همزة الوصل أي تباطأتم وملتم عن الجهاد {إِلَى الأرض} والقعود فيها والاستفهام للتوبيخ {أَرَضِيتُم بالحياة الدنيا} ولذاتها {مِنَ الأخرة} أي بدل نعيمها؟ {فَمَا مَتَاعُ الحياة الدنيا فِى} جنب متاع {الأخرة إِلاَّ قَلِيلٌ} حقير.
{إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)} {إِلاَّ} بإِدغام «لا» في نون «إن» الشرطية في الموضعين (لا) {تَنفِرُواْ} تخرجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم للجهاد {يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً} مؤلماً {وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ} أي يأت بهم بدلكم {وَلاَ تَضُرُّوهُ} أي اللهَ أو النبيَّ صلى الله عليه وسلم {شَيْئاً} بترك نصره فإن الله ناصر دينه {والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ومنه نصر دينه ونبيه.
{إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40)} {إِلاَّ تَنصُرُوهُ} أي النبيَّ صلى الله عليه وسلم {فَقَدْ نَصَرَهُ الله إِذْ} حين {أَخْرَجَهُ الذين كَفَرُواْ} من مكة أي ألجَأُه إلى الخروج لما أرادوا قتله أو حبسه أو نفيه بدار الندوة {ثَانِيَ اثنين} حال أي أحد اثنين والآخر أبو بكر، المعنى نصره الله في مثل تلك الحالة فلا يخذله في غيرها {إِذْ} بدل من «إذ» قبله {هُمَا فِى الغار} نقب في جبل ثور {إِذْ} بدل ثان {يَقُولُ لِصَاحِبِهِ} أبي بكر وقد قال له لما رأى أقدام المشركين: لو نظر أحدهم تحت قدميه لأبصرنا {لاَ تَحْزَنْ إِنَّ الله مَعَنَا} بنصره {فَأَنزَلَ الله سَكِينَتَهُ} طمأنينته {عَلَيْهِ} قيل على النبي صلى الله عليه وسلم وقيل على أبي بكر {وَأَيَّدَهُ} أي النبي صلى الله عليه وسلم {بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا} ملائكة في الغار ومواطن قتاله {وَجَعَلَ كَلِمَةَ الذين كَفَرُواْ} أي دعوة الشرك {السفلى} المغلوبة {وَكَلِمَةُ الله} أي كلمة الشهادة {هِىَ العليا} الظاهرة الغالبة {والله عَزِيزٌ} في ملكه {حَكِيمٌ} في صنعه.
{انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41)} {انفروا خِفَافًا وَثِقَالاً} نشاطا وغير نشاط، وقيل أقوياء وضعفاء أو أغنياء وفقراء، وهي منسوخة بآية {لَّيْسَ عَلَى الضعفآء} [91: 9] {وجاهدوا بأموالكم وَأَنفُسِكُمْ فِى سَبِيلِ الله ذلكم خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} أنه خير لكم فلا تثاقلوا.
{لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (42)} ونزل في المنافقين الذين تخلَّفوا {لَّوْ كَانَ} ما دعوتهم إليه {عَرْضاً} متاعاً من الدنيا {قَرِيبًا} سهل المأخذ {وَسَفَرًا قَاصِدًا} وسطاً {لاَّتَّبَعُوكَ} طلباً للغنيمة {ولكن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشقة} المسافة فتخلفوا {وَسَيَحْلِفُونَ بالله} إذا رجعتم إليهم {لَوِ استطعنا} الخروج {لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ} بالحلف الكاذب {والله يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لكاذبون} في قولهم ذلك.
{عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (43)} وكان صلى الله عليه وسلم أذن لجماعة في التخلف باجتهاد منه، فنزل عتاباً له، وقدَّم العفو تطميناً لقلبه: {عَفَا الله عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} في التخلف وهلا تركتهم {حتى يَتَبَيَّنَ لَكَ الذين صَدَقُواْ} في العذر {وَتَعْلَمَ الكاذبين} فيه؟
{لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44)} {لا يَسْتئْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الأَخِرِ} في التخلُّف عن {أَن يجاهدوا بأموالهم وَأَنفُسِهِمْ والله عَلِيمٌ بالمتقين}.
{إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45)} {إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ} في التخلَّف {الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر وارتابت} شَّكت {قُلُوبُهُمْ} في الدين {فَهُمْ فِى رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} يتحيرون.
{وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46)} {وَلَوْ أَرَادُواْ الخروج} معك {لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً} أُهبة من الآلة والزاد {ولكن كَرِهَ الله انبعاثهم} أي لم يرد خروجهم {فَثَبَّطَهُمْ} كسَّلهم {وَقِيلَ} لهم {اقعدوا مَعَ القاعدين} المرضى والنساء والصبيان، أي قدر الله تعالى ذلك.
{لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47)} {لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً} فساداً بتخذيل المؤمنين {وَلأَوْضَعُواْ خلالكم} أي أسرعوا بينكم بالمشي بالنميمة، {يَبْغُونَكُمُ} يطلبون لكم {الفتنة} بإلقاء العداوة {وَفِيكُمْ سماعون لَهُمْ} ما يقولون سماع قبول {والله عَلِيمٌ بالظالمين}.
{لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ (48)} {لَقَدِ ابتغوا} لك {الفتنة مِن قَبْلُ} أوّل ما قدمت المدينة {وَقَلَّبُواْ لَكَ الأمور} أي أجالوا الفكر في كيدك وإِبطال دينك {حتى جَآء الحق} النصر {وَظَهَرَ} عَزَّ {أَمْرُ الله} دينه {وَهُمْ كارهون} له فدخلوا فيه ظاهراً.
{وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (49)} {وَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ ائذن لّي} في التخلف {وَلاَ تَفْتِنّى} وهو الجدّ بن قيس قال له النبي صلى الله عليه وسلم: " هل لك في جلاد بني الأصفر؟ " فقال: إني مغرم بالنساء، وأخشى إن رَأيت نساء بني الأصفر أن لا أصبر عنهنّ فأُفتتن. قال تعالى: {أَلا فِى الفتنة سَقَطُواْ} بالتخلُّف، وقرئ «سقط» {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بالكافرين} لا محيص لهم عنها.
{إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (50)} {إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ} كنصر وغنيمة {تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ} شدّة {يَقُولُواْ قَدْ أَخَذْنَآ أَمْرَنَا} بالحزم حين تخلفنا {مِن قَبْلُ} قبل هذه المصيبة {وَيَتَوَلَّواْ وَّهُمْ فَرِحُونَ} بما أصابك.
{قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51)} {قُلْ} لهم {لَّن يُصِيبَنَآ إِلاَّ مَا كَتَبَ الله لَنَا} إصابته {هُوَ مولانا} ناصرنا ومتولّي أمورنا {وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون}.
{قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52)} {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ} فيه حذف إحدى التاءين من الأصل: أي تنتظرون أن يقع {بِنَآ إِلآ إِحْدَى} العاقبتين {الحسنيين} تثنية «حُسْنى» تأنيث «أحْسَنَ»: النصر أو الشهادة {وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ} ننتظر {بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ الله بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ} بقارعة من السماء {أَوْ بِأَيْدِينَا} بأن يؤذن لنا في قتالكم {فَتَرَبَّصُواْ} بنا ذلك {إِنَّا مَعَكُمْ مُّتَرَبِّصُونَ} عاقبتكم.
{قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ (53)} {قُلْ أَنفِقُواْ} في طاعة الله {طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ} ما أنفقتموه {إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْماً فاسقين} والأمر هنا بمعنى الخبر.
{وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ (54)} {وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ} بالياء والتاء {مِنْهُمْ نفقاتهم إِلاَّ أَنَّهُمْ} فاعل و«أن تقبل» مفعول {كَفَرُواْ بالله وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصلاة إِلاَّ وَهُمْ كسالى} متثاقلون {وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كارهون} النفقة لأنهم يعدونها مغرماً.
{فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55)} {فَلاَ تُعْجِبْكَ أموالهم وَلآ أولادهم} أي لا تستحسن نعمنا عليهم فهي استدراج {إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُعَذِّبَهُمْ} أي أن يعذّبهم {بِهَا فِي الحياة الدنيا} بما يلقون في جمعها من المشقة وفيها من المصائب {وَتَزْهَقَ} تخرج {أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كافرون} فيعذبهم في الآخرة أشدّ العذاب.
{وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56)} {وَيَحْلِفُونَ بالله إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ} أي مؤمنون {وَمَا هُم مِّنكُمْ ولكنهم قَوْمٌ يَفْرَقُونَ} يخافون أن تفعلوا بهم كالمشركين فيحلفون تقية.
{لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57)} {لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً} يلجؤون إليه {أَوْ مغارات} سراديب {أَوْ مُدَّخَلاً} موضعاً يدخلونه {لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ} يُسرعون في دخوله والانصراف عنكم إسراعا لا يردّه شيء كالفرس الجموح.
{وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (58)} {وَمِنْهُمْ مَّن يَلْمِزُكَ} يعيبك {فِى} قَسْم {الصدقات فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنهَآ إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ}.
{وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ (59)} {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَآ ءاتاهم الله وَرَسُولُهُ} من الغنائم ونحوها {وَقَالُواْ حَسْبُنَا} كافينا {الله سَيُؤْتِينَا الله مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ} من غنيمة أخرى ما يكفينا {إِنَّآ إِلَى الله راغبون} أن يغنينا، وجواب «لو» لكان خيراً لهم.
{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60)} {إِنَّمَا الصدقات} الزكوات مصروفة {لِلْفُقَرَآء} الذين لا يجدون ما يقع موقعاً من كفايتهم {والمساكين} الذين لا يجدون ما يكفيهم {والعاملين عَلَيْهَا} أي الصدقات من جابٍ وقاسم وكاتب وحاشر {والمؤلفة قُلُوبُهُمْ} ليسلموا أو يثبت إسلامهم أو يُسلم نظراؤهم أو يذبوا عن المسلمين أقسام والأول والأخير لا يعطيان اليوم عند الشافعي رضي الله تعالى عنه لعزّ الإِسلام، بخلاف الآخرين فيعطيان على الأصح {وَفِى} فك {الرقاب} أي المكاتبين {والغارمين} أهل الدين إن استدانوا لغير معصية، أو تابوا وليس لهم وفاء أو لإِصلاح ذات البين ولو أغنياء {وَفِى سَبِيلِ الله} أي القائمين بالجهاد ممن لا فيء لهم ولو أغنياء {وابن السبيل} المنقطع في سفره {فَرِيضَةً} نصب بفعله المقدر {مِّنَ الله والله عَلِيمٌ} بخلقه {حَكِيمٌ} في صنعه فلا يجوز صرفها لغير هؤلاء، ولا منعَ صنف منهم إذا وجد فيقسمها الإِمام عليهم على السواء وله تفضيل بعض آحاد الصنف على بعض، وأفادت «اللام» وجوب استغراق أفراده لكن لا يجب على صاحب المال إذا قسم لعسره، بل يكفي إعطاء ثلاثة من كل صنف ولا يكفي دونها كما أفادته صيغة الجمع وبينت السنة أن شرط المعطَى منها الإسلام وأن لا يكون هاشميا ولا مُطَّلِبِيّاً.
{وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (61)} {وَمِنْهُمْ} أي المنافقين {الذين يُؤْذُونَ النبي} بعيبه وبنقل حديثه {وَيَقُولُونَ} إذا نُهوا عن ذلك لئلا يبلغه هُوَ {أُذُنُ} أي يسمع كلَّ قيل ويقبله، فإِذا حلفنا له أنا لم نقل: صدّقنا {قُلْ} هو {أَذِنَ} مستمع {خَيْراً لَّكُمْ} لا مستمع شرّ {يُؤْمِنُ بالله وَيُؤْمِنُ} يصدّق {لِلْمُؤْمِنِينَ} فيما أخبروه به لا لغيرهم، واللام زائدة للفرق بين إيمان التسليم وغيره {وَرَحْمَةٌ} بالرفع عطفاً على «أُذن» والجرّ عطفاً على «خير» {لِّلَّذِينَ ءامَنُواْ مِنكُمْ والذين يُؤْذُونَ رَسُولَ الله لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.
{يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ (62)} {يَحْلِفُونَ بالله لَكُمْ} أيها المؤمنون فيما بلغكم عنهم من أذى الرسول أنهم ما أتوه {لِيُرْضُوكُمْ والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ} بالطاعة {إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ} حقاً، وتوحيد الضمير لتلازم الرضاءين وخبر «الله» أو«رسوله» محذوف.
{أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63)} {أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّهُ} أي الشأن {مَن يُحَادِدِ} يشاقق {الله وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ} جزاءً {خَالِداً فِيهَا ذلك الخزى العظيم}.
{يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ (64)} {يَحْذَرُ} يخاف {المنافقون أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ} أي المؤمنين {سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم} من النفاق، وهم مع ذلك يستهزئون {قُلِ استهزءوا} أمر تهديد {إِنَّ الله مُخْرِجٌ} مظهر {مَّا تَحْذَرُونَ} إِخراجه من نفاقكم.
{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65)} {وَلَئِنْ} لام قسم {سَأَلْتَهُمْ} عن استهزائهم بك والقرآن وهم سائرون معك إلى (تبوك) {لَيَقُولُنَّ} معتذرين {إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} في الحديث لنقطع به الطريق ولم نقصد ذلك {قُلْ} لهم {أَبِاللهِ وَءَايَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ}؟.
{لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (66)} {لاَ تَعْتَذِرُواْ} عنه {قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إيمانكم} أي ظهر كفركم بعد إظهار الإِيمان {أَن يَعْفَ} بالياء مبنياً للمفعول، والنون مبنياً للفاعل {عَن طآئِفَةٍ مِّنْكُمْ} بإخلاصها وتوبتها كجحش بن حمير الأشجعي {تُعَذَّبَ} بالتاء والنون {طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ} مصرّين على النفاق والاستهزاء.
{الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (67)} {المنافقون والمنافقات بَعْضُهُمْ مِّن بَعْضٍ} أي متشابهون في الدين كأبعاض الشيء الواحد {يَأْمُرُونَ بالمنكر} الكفر والمعاصي {وَيَنْهَوْنَ عَنِ المعروف} الإِيمان والطاعة {وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ} عن الإِنفاق في الطاعة {نَسُواْ الله} تركوا طاعته {فَنَسِيَهُمْ} تركهم من لطفه {إِنَّ المنافقين هُمُ الفاسقون}.
{وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (68)} {وَعَدَ اللهُ المنافقين والمنافقات والكفار نَارَ جَهَنَّمَ خالدين فِيهَا هِىَ حَسْبُهُمْ} جزاء وعقاباً {وَلَعَنَهُمُ الله} أبعدهم عن رحمته {وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ} دائم.
{كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (69)} أنتم أيها المنافقون {كالذين مِن قَبْلِكُمْ كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أموالا وأولادا فاستمتعوا} تمتعوا {بخلاقهم} نصيبهم من الدنيا {فَاسْتَمْتَعْتُمْ} أيها المنافقون {بخلاقكم كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بخلاقهم وَخُضْتُمْ} في الباطل والطعن في النبي صلى الله عليه وسلم {كالذي خَاضُواْ} أي كخوضهم {أولئك حَبِطَتْ أعمالهم فِي الدنيا والأخرة وأولئك هُمُ الخاسرون}.
{أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70)} {أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ} خبر {الذين مِن قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ} قوم هود {وَثَمُودَ} قوم صالح {وَقَوْمِ إبراهيم وأصحاب مَدْيَنَ} قوم شعيب {والمؤتفكات} قُرى قوم لوط: أي أهلها؟ {أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بالبينات} بالمعجزات فكذبوهم فأهلكوا {فَمَا كَانَ الله لِيَظْلِمَهُمْ} بأن يعذبهم بغير ذنب {ولكن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} بارتكاب الذنب.
{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71)} {والمؤمنون والمؤمنات بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بالمعروف وَيَنْهَوْنَ عَنِ المنكر وَيُقِيمُونَ الصلاة وَيُؤْتُونَ الزكواة وَيُطِيعُونَ الله وَرَسُولَهُ أولئك سَيَرْحَمُهُمُ الله إِنَّ الله عَزِيزٌ} لا يُعجزه شيء عن إنجاز وعده ووعيده {حَكِيمٌ} لا يضع شيئاً إلا في محله.
{وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72)} {وَعَدَ الله المؤمنين والمؤمنات جنات تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خالدين فِيهَا ومساكن طَيِّبَةً فِى جَنَّاتِ عَدْنٍ} إقامة {ورضوان مِّنَ الله أَكْبَرُ} أعظم من ذلك كله {ذلك هُوَ الفوز العظيم}.
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73)} {ياأيها النبى جاهد الكفار} بالسيف {والمنافقين} باللسان والحجة {واغلظ عَلَيْهِمْ} بالانتهار والمقت {وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المصير} المرجع هي.
{يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (74)} {يَحْلِفُونَ} أي المنافقون {بالله مَا قَالُواْ} ما بلغك عنهم من السبّ {وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الكفر وَكَفَرُواْ بَعْدَ إسلامهم} أظهروا الكفر بعد إظهار الإِسلام {وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ} من الفتك بالنبيّ ليلة العقبة عند عودته من تبوك وهم بضعة عشر رجلاً، فضرب عمار بن ياسر وجوه الرواحل لما غشوه فردّوا {وَمَا نَقَمُواْ} أنكروا {إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ الله وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ} بالغنائم بعد شدّة حاجتهم المعنى: لم ينلهم منه إلا هذا وليس مما يُنْقَمُ {فَإِن يَتُوبُواْ} عن النفاق ويؤمنوا بك {يَكُ خَيْراً لَّهُمْ وَإِن يَتَوَلَّوْا} عن الإِيمان {يُعَذِّبْهُمُ الله عَذَابًا أَلِيمًا فِى الدنيا} بالقتل {والأخرة} بالنار {وَمَا لَهُمْ فِى الأرض مِن وَلِيٍّ} يحفظهم منه {وَلاَ نَصِيرٍ} يمنعهم.
{وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آَتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75)} {وَمِنْهُمْ مَّنْ عاهد الله لَئِنْ ءاتانا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ} فيه إدغام التاء في الأصل في الصاد {وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصالحين} وهو ثعلبة بن حاطب سأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو له أن يرزقه الله مالاً ويؤدّي منه كل ذي حق حقه فدعا له فَوُسِّعَ عليه فانقطع عن الجمعة والجماعة ومنع الزكاة كما قال تعالى:
{فَلَمَّا آَتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76)} {فَلَمَّآ ءَاتَاهُمْ مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ} عن طاعة الله {وَهُم مُّعْرِضُونَ}.
{فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (77)} {فَأَعْقَبَهُمْ} أي فصيَّر عاقبتهم {نِفَاقاً} ثابتاً {فِى قُلُوبِهِمْ إلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ} أي الله وهو يوم القيامة {بِمآ أَخْلَفُواْ الله مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ} فيه. فجاء بعد ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم بزكاته فقال «إن الله منعني أن أقبل منك» فجعل يحثو التراب على رأسه، ثم جاء بها إلى أبي بكر فلم يقبلها، ثم إلى عمر فلم يقبلها، ثم إلى عثمان فلم يقبلها ومات في زمانه.
{أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (78)} {أَلَمْ يَعْلَمُواْ} أي المنافقون {أَنَّ الله يَعْلَمُ سِرَّهُمْ} ما أسرّوه في أنفسهم {ونجواهم} ما تناجَوْا به بينهم {وَأَنَّ الله علام الغيوب} ما غاب عن العيان.
{الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (79)} ولما نزلت آيةُ الصدقة جاء رجل فتصدّق بشيء كثير، فقال المنافقون: مُراءٍ، وجاء رجل فتصدّق بصاع فقالوا: إن الله غنيّ عن صدقة هذا، فنزل: {الذين} مبتدأ {يَلْمِزُونَ} يَعيبون {المطوعين} المتنفلين {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصدقات وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ} طاقتهم فيأتون به {فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ} والخبر {سَخِرَ الله مِنْهُمْ} جازاهم على سخريتهم {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.
{اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (80)} {أَسْتَغْفِرُ} يا محمد {لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} تخيير له في الاستغفار وتركه، قال صلى الله عليه وسلم: «إني خُيِّرْتُ فاخترت» يعني الاستغفار. رواه البخاري {إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ الله لَهُمْ} قيل: المراد بالسبعين المبالغة في كثرة الاستغفار. وفي البخاري حديث " لو أعلم أني لو زدت على السبعين غَفَرَ، لَزِدتُ عليها " وقيل المراد العدد المخصوص لحديثه أيضاً " وسأزيد على السبعين " فبيَّن له حسم المغفرة بآية {سَوَاء عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} [6: 63] {ذلك بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بالله وَرَسُولِهِ والله لاَ يَهْدِي القوم الفاسقين}.
{فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ (81)} {فَرِحَ المخلفون} عن تبوك {بِمَقْعَدِهِمْ} أي بقعودهم {خلاف} أي بعد {رَسُولِ الله وَكَرِهُواْ أَن يجاهدوا بأموالهم وَأَنْفُسِهِمْ فِى سَبِيلِ الله وَقَالُواْ} أي قال بعضهم لبعض {لاَ تَنفِرُواْ} تخرجوا إلى الجهاد {فِى الحر قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً} من تبوك فالأولى أن يتقوها بترك التخلف {لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} يعلمون ذلك ما تخلفوا.
{فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82)} {فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً} في الدنيا {وَلْيَبْكُواْ} في الآخرة {كَثِيرًا جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} خبر عن حالهم بصيغة الأمر.
{فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ (83)} {فَإِن رَّجَعَكَ} ردّك {الله} من تبوك {إلى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ} ممن تخلف بالمدينة من المنافقين {فاستئذنوك لِلْخُرُوجِ} معك إلى غزوة أخرى {فَقُلْ} لهم {لَّن تَخْرُجُواْ مَعِىَ أَبَدًا وَلَن تقاتلوا مَعِىَ عَدُوّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بالقعود أَوَّلَ مَرَّةٍ فاقعدوا مَعَ الخالفين} المتخلفين عن الغزو من النساء والصبيان وغيرهم.
{وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (84)} ولما صلى النبي صلى الله عليه وسلم على ابن أُبَيّ نزل {وَلاَ تُصَلِّ على أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ على قَبْرِهِ} لدفن أو زيارة {إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بالله وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فاسقون} كافرون.
{وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (85)} {وَلاَ تُعْجِبْكَ أموالهم وأولادهم إِنَّمَا يُرِيدُ الله أَن يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِى الدنيا وَتَزْهَقَ} تخرج {أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كافرون}.
{وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آَمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ (86)} {وَإِذآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ} أي طائفة من القرآن {أَن} أي بأن {ءَامِنُواْ بالله وجاهدوا مَعَ رَسُولِهِ استأذنك أُوْلُواْ الطول} ذوو الغنى {مِنْهُمْ وَقَالُواْ ذَرْنَا نَكُنْ مَّعَ القاعدين}.
{رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (87)} {رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الخوالف} جمع (خالفة) أي النساء اللاتي تخلفن في البيوت {وَطُبِعَ على قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ} الخير.
{لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88)} {لكن الرسول والذين ءَامَنُواْ مَعَهُ جاهدوا بأموالهم وَأَنفُسِهِمْ وأولئك لَهُمُ الخيرات} في الدنيا والآخرة {وأولئك هُمُ المفلحون} أي الفائزون.
{أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89)} {أَعَدَّ الله لَهُمْ جنات تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خالدين فِيهَا ذلك الفوز العظيم}.
{وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (90)} {وَجَآءَ المعذرون} بإدغام التاء في الأصل في الذال، أي المعتذرون بمعنى (المعذورين)، وقرئ به {مِّنَ الأعراب} إلى النبي صلى الله عليه وسلم {لِيُؤْذَنَ لَهُمْ} في القعود لعذرهم فأذن لهم {وَقَعَدَ الذين كَذَبُواْ الله وَرَسُولَهُ} في ادعاء الإِيمان من منافقي الأعراب عن المجيء للاعتذار {سَيُصِيبُ الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.
{لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91)} {لَّيْسَ عَلَى الضعفآء} كالشيوخ {وَلاَ على المرضى} كالعمي والزمنى {وَلاَ عَلَى الذين لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ} في الجهاد {حَرَجٌ} إثم في التخلف عنه {إِذَا نَصَحُواْ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} في حال قعودهم بعدم الإِرجاف والتثبيط والطاعة {مَا عَلَى المحسنين} بذلك {مِّن سَبِيلٍ} طريق بالمؤاخذة {والله غَفُورٌ} لهم {رَّحِيمٌ} بهم في التوسعة في ذلك.
{وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ (92)} {وَلاَ عَلَى الذين إِذَا مَآ أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ} معك إلى الغزو وهم سبعة من الأنصار، وقيل بنو مُقَرِّن {قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَآ أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ} حال {تَوَلَّوْاْ} جواب «إذا» أي انصرفوا {وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ} تسيل {مِنْ} للبيان {الدمع حَزَناً} لأجل {أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنْفِقُونَ} في الجهاد.
|